تجذب كرة القدم ملايين المتابعين حول العالم، فتكاد لا تخلو بقعة مأهولة على الأرض من عشاقها ومحبيها. وسحرها الخاص يدفع أبرز رجال الأعمال وكبرى الشركات الى ضخ مبالغ طائلة للإستثمار فيها.

ميزانيات هائلة ترصد سنوياً لدى أعرق وأثرى الأندية العالمية ولا سيما الأوروبية منها، وقد يحقق فريق واحد أرباحاً تفوق مجموع ما تحققه أندية أخرى في أماكن متفرقة. واللافت أنّ الأزمات الإقتصادية - السياسية لا تؤثر سلباً على الفرق الهامة في بعض الدول، خير دليل على ذلك إنتعاش خزينة "ريال مدريد" في العام المنصرم وتحقيقه عائدات قياسية (نحو 604 مليون يورو) رغم تخبط الدولة الأسبانية في إضطرابات مالية منذ العام 2008.

وفي الدول العربية تتصدر الأندية السعودية والمصرية قائمة النوادي الأكثر حصداً للألقاب والمحظية بأضخم ميزانيات الفرق العربية والشرق أوسطية. ولقد وصلت ميزانية نادي الأهلي المصري الأخيرة الى 332 مليون جينه (حوالي 43.5 مليون دولار) وهي الأعلى في تاريخه، فيما تتنافس أكبر الأندية السعودية كالأهلي والهلال على توقيع عقود رعاية مع شركات عالمية ما يشعل المنافسة أكثر في دوري عبد اللطيف جميل لكرة القدم.

لكن الوضع في لبنان يختلف جذرياً عن محيطه، وواقع كرة القدم المحلي المتردي اليوم يعكس صورة تدهور النمو الإقتصادي الوطني وتأزم الأوضاع السياسية والإجتماعية. فميزانية وزارة الشباب والرياضة لا تتجاوز الثلاث مليارات ليرة لبنانية وهي أقل من ميزانية أحد أشهر أندية كرة السلة اللبنانية، بينما أسعار سيارات بعض نجوم لعبة كرة القدم العالميين تفوق بكثير الميزانية الأعلى لأي فريق لبناني.

للإطلاع عن كثب على واقع حال ميزانيات أندية كرة القدم اللبنانية في الدرجة الأولى والثانية، قمنا بإجراء أحاديث مع عدد من المعنيين وعدنا بالآتي:

الراسينغ: ميزانيتنا متقاربة منذ اربع سنوات


أولاً، كان لنا حديث مع أمين سر نادي الراسينغ جورج حنا الذي بدأ كلامه عن ميزانية الفريق بالتأكيد أنها كانت متقاربة ومتشابهة في السنوات الأربع الأخيرة. فمنذ ثلاث سنوات كانت الميزانية 540 ألف دولار، وأضحت في السنة الماضية حوالي 620 ألف دولار، ثم بلغت هذه السنة 600 ألف دولار.

وبموضوع رواتب اللاعبين، تلا علينا "حنا" راتب كل لاعب في ناديه، مشدداً على أن الكل يتقاضى أجراً حسب أهميته. فاللاعب الأجنبي يجب أن تؤمن له سيارة ومكان للإقامة وطبعاً الراتب الذي يطلبه، هذا غير المبلغ المحدد في العقد، لذلك يعطونه حوالي 150 ألف دولار. أما اللاعب اللبناني وفي حال كان مستواه جيداً جداً، فلا يقبل براتب دون 1300 أو 1500 دولار. وكل هذا يأتي حُكماً حسب ميزانية الفريق.

كما أكد في هذا السياق أنّ ضخامة حجم الميزانية لا يهم، بالإمكان مثلاً التعاقد مع لاعبين أجانب براتب مرتفع جداً (150 ألف دولار سنوياً) وقد لا يستطيعون أن يحصدوا وإياهم أي بطولة، وممكن جلب لاعبين براتب أدنى بكثير يربحون معهم البطولة. لذلك برأيه المسألة ليست قصة مال أو ميزانية، بل إنها قصة توفيق.

أما لدى سؤاله عن أسباب الدعم، فقال وبكل صراحة انه في لبنان، لا وجود لنادِ من دون دعم حزبي أو سياسي، وصرّح أيضاً أنّ نادي الراسينغ ما كان موجوداً لولا الوزير ميشال فرعون الذي يفرحه إمتلاك هذا النادي لأنه نادي منطقته. ولكنه في نفس الوقت ينزعج بسبب عدم وجود جمهور في لعبة كرة القدم اللبنانية، فإذا تحمس الجمهور مرة لحضور مباراة تحدث مشاكل عديدة ويُمنع بعدها من دخول الملعب؛ عندها نرجع لنقطة الصفر. لذلك يرى "حنا" أن لا وجود للدولة التي من واجبها الإهتمام بهذه اللعبة.

وتابع كلامه بشرح الخطة الجديدة التي اتبعها الوزير فرعون لهذه السنة، فقال أنه تحدث مع جميع الناس الميسورين في الأشرفية ورجال الأعمال وشكل معهم مجلس أمناء، وهذا المجلس يترأسه "فيليب دو بوستروس". والخطة الجديدة بالإتفاق مع مجلس الأمناء قضت بقيام حفلة، وهي التي دعمت الفريق بمدخول كبير يوازي تقريباً نصف ميزانية نادي الراسينغ؛ فأضحى النادي عندها يستطيع مواصلة مسيرته ولو بميزانية بسيطة. كما لفت الى جهود كل من روجيه صهيون و بيار فرعون نجل الوزير في هذا الإطار.

وختم قائلاً: للمنافسة الحقيقية يجب وضع ميزانية لا تقل عن المليون دولار، فبهذا المبلغ يمكن إستقدام لاعبين على مستوى عال جداً ومدرب نجم مع بناء فريق متكامل، عندها تأتي المنافسة الجدية والفوز بالبطولة. أما بإعتماد ميزانية قليلة، فمن غير المستطاع شراء لاعبي إحتياط موازين للاعبين الأساسيين، وإذا أصيب أحد اللاعبين الأساسيين تخف فرصة الفوز بطبيعة الحال.

العهد: الميزانية ارتفعت هذا العام بسبب المنافسة


ثم كان لنا حديث آخر مع أمين سر نادي العهد محمد عاصي الذي أشار أولاً الى معاناة الفريق مالياً بسبب عدم التسويق وعدم وجود راع، موضحاً أنّ الميزانية تعتمد على الجمعيات والتبرعات ومحبي الرياضة.

وقال أنهم في السنة الماضية كانوا يتوقعون أن تبلغ ميزانية النادي 750 ألف دولار في بداية عامي 2014 و 2015، لكن الميزانية إرتفعت هذه السنة وذلك بسبب شدة المنافسة بينهم وبين أندية اﻷنصار وطرابلس والصفا والنجمة. وفي تقديره أنّ الميزانية ستشهد في نهاية الموسم تصاعداً ملحوظاً يصل إلى 950 ألف دولار، هذا مع إحراز اللقب.
كما توقف عاصي عند الميزانية اللازمة ﻹحراز اللقب، قائلاً أنّ 950 ألف دولار تكفي لبلوغه. معلناً أيضاً أن هذا ما حصل معهم في السنوات اﻷخيرة الماضية، فقد وضعوا ميزانية تقارب 750 ألف دولار وها قد إرفعت اليوم، لذلك برأيه أن 900 أو 950 ألفاً تعتبر كافية. لكن بالنسبة لفريق يريد فقط الحفاظ على تواجده في الدرجة الأولى دون الهبوط للدرجة الثانية، فيلزمه من 400 إلى 700 ألف دولار، بهذه الميزانية يعتقد أنّ الفريق يستطيع ضمان بقائه في دوري الاضواء.

أما بالتطرق الى أسباب دعم الفريق، فأقرّ بأنّ هذا الدعم يأتي من مصادر مختلفة، أولاً الهيئة اﻹدارية وطبعاً تميم سليمان رئيس النادي الذي يوفر الدعم بشكل قوي، وقد بدأ أعضاء الهيئة الذين يتراوح عددهم من 15 إلى 20 عضواً، أيضا بالمساهمة ولكن حسب المنافسة والفوز بالمباريات.

وقال هناك مساهمة لوزارة الشباب والرياضة وأخرى ضئيلة لإتحاد كرة القدم من النقل التلفزيوني، وذلك حسب الترتيب الذي يمكن الوصول إليه وحسب النقاط.

ولم يفت عاصي ذكر التبرعات الواردة من الخيرين كعدد من رجال اﻷعمال، وبحسب قوله يتبرع رجال اﻷعمال بعض الأوقات لفئة معينة من الشباب ﻷن كرة القدم تأتي على عدة فئات. هذا بالإضافة الى وجود مساهمة لجمعيات إنما بشكل قليل جداً، لذلك تمنى على اﻹتحاد التسويق وجلب رعاة للفريق.

بالنهاية حدثنا عن ميزانية الأجانب لدى العهد، شارحاً أنها تأتي ضمن الميزانية العامة بالرغم من أنّ اﻷجانب كانت ميزانيتهم مرتفعة هذه السنة. ففي المراحل الأولى كان لديهم أجنبيين إثنين وكانا فعالين، لكنهم بسبب المنافسة القوية إستقدموا اللاعب الأجنبي اﻷوغندي دينيس، وهو الذي أحدث تغييراً كبيراً للفريق. وشدد أنه لا وجود ﻷي دعم مالي سياسي.


طرابلس: بحاجة لمليون دولار لنيل البطولة


وكان لا بد لنا من مقابلة أحد ممثلي الشمال، فالتقينا بمدير نادي طرابلس عماد توروس الذي تكلم على ميزانية النادي حيث قال أنّ النادي يضع السقف المالي من مصاريف ورواتب أول السنة، وعلى هذا الأساس تتأمن المصاريف اللازمة عن طريق جمعية العزم والسعادة. وميزانية الفريق ليست بالحجم الكبير فهي لا تتخطى الـ 500 ألف دولار، أما بالنسبة لميزانية المنافسة على الدرجة الأولى فأورد بأنه لا شأن له فيها.

تابع كلامه قائلاً أنّ النادي مدعوم من جمعية العزم والسعادة برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي، وهو متكفل بكل الميزانية ويدعم الرياضة بشكل عام وليس فقط نادي طرابلس.

وبالإستفسار عن ميزانية المنافسة أجاب: نحن في الحقيقة نحتل المركز الرابع ولكي ننال البطولة نحن بحاجة الى مليون دولار، لأن ميزانية الفرق الثلاثة الأولى هي بهذه الحدود؛ كما وميزانية الأجانب أيضا هي حوالي 150 ألف دولار.

الاجتماعي: الرواتب ستزداد الموسم المقبل

أخيراً توجهنا الى محمد درغام مدير نادي الإجتماعي الذي أحرز بطولة الدرجة الثانية، فأوجز لنا ما يلي: ميزانية الفريق بلغت حوالي 120 ألف دولار، كاشفاً بأنّ الرئيس "نجيب ميقاتي" تكفل ب 80 ألفاً من أصل 120 أي ثلاثة أرباع المبلغ.

وحدد وضع ميزانية اﻷجانب قائلاً أنها لم تكلف أكثر من 30 ألف دولار، وهم بنظره أعطوا الكثير للفريق وبفضلهم وفضل جميع اللاعبين وصل النادي إلى الدرجة اﻷولى؛ آملاً بإحداث نتيجة جيدة في الدرجة اﻷولى.كما قال لنا "درغام" أنهم لم يضعوا خطةً للسنة القادمة بعد، بانتظار الاجتماع مع ميقاتي لوضع الخطة.

ثم أخبرنا عن راتب كل ﻻعب، مشيراً أنّ اللاعب اللبناني يتقاضى في الإجتماعي ما بين 400 أو 500 دوﻻر، أما اللاعب اﻷجنبي فراتبه يصل الى 1200 و 1300 دوﻻر. وقال أنه في السنة القادمة عندما يصعدون إلى الدرجة اﻷولى، ستزداد الرواتب حتماً.

إزاء كل ما ذُكر، هل يحق لنا السؤال مجدداً عن أسباب تدهور مستوى لعبة كرة القدم في لبنان، ونحن لا نجد توفراً لأبسط المقومات المالية لدى الأندية ؟! وأية حوافز تعطى لللاعبين اللبنانيين لتقديم أفضل ما لديهم من قدرات فنية ؟

إنّ أكثر من يعاني في ظل هذا الواقع المزري هو اللاعب اللبناني الذي غالباً ما يضطر الى إمتهان عمل آخر للعيش بكرامة في بلده. فغياب الإشراف الرسمي على اللعبة وسوء التخطيط وإنعدام الإستثمار الجيد في الكوادر البشرية وإنقطاع الرعاية المالية والهبات اللازمة، كلها عوامل تؤدي الى تخلّف لبنان عن اللحاق بركب التطور الإقليمي والدولي على صعيد كرة القدم.

ورغم ذلك متى توفرت الجدية والنية الصادقة لتحسين ودعم كرة القدم اللبنانية تتدحرج جميع العوائق الواحد تلو الآخر، ويصبح بالمستطاع خلق واقع مغاير تماماً يلبي طموحات الشعب اللبناني الذي يحلم برؤية منتخبه وأنديته قادرين على المنافسة خارجياً في أحد الأيام.


ملاحظة: تواصلنا أكثر من مرة مع إدارة نادي الأنصار بشخص أمين الصندوق اسماعيل محمود الذي أشبعنا وعوداً بالإجابة، إلاّ أنه كان يتعمّد التسويف والمماطلة في كل مرة. وبعد هذا التصرف، إضطررنا الى إستكمال إعداد التحقيق ونشره دون التطرق الى نادي الانصار.