لا يختلف اثنان أن كرة القدم اللبنانية بدأت تستعيد الكثير من بريقها في السنين الاخيرة و لعل ما حققه منتخبنا الوطني من الوصول للدور الحاسم لتصفيات كأس العالم و فقدان تذكرة الوصول إلى كأس الامم الاسيوية بفارق هدف وحيد يعتبر الدليل الأبرز على استعادة اللعبة حضورها الذي كان غائبا. كما أن ما يشهده هذا الموسم من منافسة شرسة بين أربعة نواد على اللقب، وعدد اكبر من النوادلي تفادي الهبوط لدوري المظاليم أي الدرجة الثانية وسط حضور جماهيري كبير، هو أكبر دليل على عودة الروح للعبة الشعبية الأولى في لبنان و العالم.


و غالبا عندما يستحضر أي مشهد كروي، تسلط الأضواء على اللاعبين و الإداريين و الجمهور لكن حلقة النقاش الأكبر دائما ما يلعب الحكم فيها الدور البارز. فالحكم هو من يدير المباراة و يتحكم عبر قراراته بمجرياتها و يعتبر مادة دسمة لإلقاء الإتهامات عل، خصوصاً عند الخسارة. يتعرض الحكم للكثير من الانتقادات منها ما هو صحيح ومنها ما هو ظالم بحقه. فالحكم يأخذ قراراته في جزء من الثانية، متحملا ضغطا كبيرا من الجميع، قرارات لا يقبل أحد أن يخطىء فيها لانها غالباً ما تقرر مصير المباريات، ولكن الحكم في نهاية المطاف هو انسان ايضاً.


في ظل هذه الاجواء يعيش الحكم اللبناني و يحاول تقديم أقصى ما لديه خصوصا في ظل تقدم مستوى التحكيم على مستوى العالم و التغير المستمر في القوانين و التعديل عليها، ما يفرض على الحكم أن يتابع هذا التطور كي يلحق بالركب العالمي.


و كما يعلم الجميع، لم تصل الكرة اللبنانية بعد إلى الإحتراف و الأسباب عديدة لسنا أبدا في وارد ذكرها و شرحها لأنها طويلة و معقدة و ميؤوس منها حتى، ووضع كرتنا ينطبق أيضا على حكامنا فهم يمارسون هذه الهواية و لا يعتمدون عليها كمصدر رزق فهم يعملون إلى جانب التحكيم .


و لا نفشي سرا إن قلنا أن ما حصل مع الحكام اللبنانيين في سنغافورة منذ سنتين و العقوبات التي اتخذها الإتحادين الأسيوي و الدولي في هذا الصدد كانت ضربة قوية للجهاز التحكيمي اللبناني، و أدت إلى استبعاد التحكيم اللبناني لسنتين من الإستدعاء الخارجي. لكن الصورة اليوم تغيرت إذ سمى الإتحاد الأسيوي مؤخرا الحكم الدولي " علي رضا " حكما رابعا ضمن لائحة الحكام الآسيويين المعتمدين لعام 2015 وهذا ما سيفتح الباب مجددا أمام الحكام اللبنانيين للعودة إلى الساحة الآسيوية و إعادة الثقة المفقودة للحكم اللبناني في الخارج.


و في السنوات الماضية، كان الجهاز التحكيمي اللبناني يخضع لعدة تغييرات، فإذا ما صح القول، أكثر من نصف الجيل القديم قد اعتزل و تسلمت لجنة جديدة للحكام برئاسة جورج شاهين حلت محل اللجنة السابقة و كان هدف اللجنة الأول ضخ دماء جديدة في التحكيم. و هذا ما حصل بالفعل إذ أطلق الإتحاد اللبناني لكرة القدم دورة حكام الغد التي كانت عبارة عن عدد من الدورات لتخريج حكام جددا صغار العمر ومن حاملي الشهادات الجامعية، و هو ما نجح فيه الإتحاد بشكل كبير و قد بدأ معظم هؤلاء الحكام في قيادة مباريات الفئات العمرية بعد اجتيازهم للإختبار البدني الإلزامي كي يكتسبوا خبرة تؤهلهم فيما بعد للوصول إلى الدرجات الأعلى تحكيما.


100 حكم لبناني


في لبنان حاليا حوالي مئة حكم عامل في مجال التحكيم اللبناني، ينقسمون ما بين حكام رئيسيين للساحة و حكام مساعدين يتدرجون في أربع فئات: " دوليين، أولى، ثانية و ثالثة" . يتمرن هؤلاء الحكام مرتين في الاسبوع، الثلاثاء على مضمار الملعب البلدي في بيروت و الخميس كل في محافظته.
يعطي الإتحاد الدولي حصة لكل بلد من ناحية الحكام الدوليين حسب قوة المسابقة المحلية و تصنيفها على المستوى القاري و يمتلك لبنان حاليا خمسة ساحة حكام دوليين و ثمانية حكام مساعدين بعد اعتزال الحكم رضوان غندور التحكيم الدولي تاركا المجال للحكام الشباب للتنافس فيما بينهم للحصول على الشارة الدولية. إشارة إلى أن غندور سيتجه في الفترة المقبلة إلى الإشراف على الحكام صغار السن للإستفادة من خبرته الكبيرة لإعدادد جيل واعد من الحكام اللبنانيين.


يتكون الحكم الناجح من عدة عوامل، أبرزها أن يكون ذو شخصية هادئة، فاهما لقانون اللعبة و مجرياتها، جريئا في اتخاذ القرار السليم في الوقت الصعب و أن لا يكون متأثرا بالضغط الذي يلقى عليه.
لكن أحد أهم العناصر التي تميز الحكم هي لياقته البدنية العالية و التي تسمح له بالتحرك السريع من أجل اتخاذ رؤية مثالية تسمح له بإطلاق صافرة صحيحة. فما وضع حكامنا بدنيا و كيف يتم تحضيرهم؟

قواص يشرح المراحل الاعدادية لتمرين الحكام


التقينا الحكم الدولي المساعد السابق أحمد قواص، الذي مثل لبنان في كأس العالم للناشئين عام 2007 و الذي يعمل حاليا كمدرب للياقة البدنية لحكام لبنان. سألناه أولا عن الفترات الإعدادية البدنية التي يمر بها الحكم فأجاب:


تتألف مرحلة الإعداد من ثلاث محطات و تمتد كل محطة منها لحوالي الثلاث أشهر و النصف. المرحلة الأولى هي فترة الإعداد العام أي " الرشاقة و الليونة و التقوية و السرعات " و تدخل فيها كل المتطلبات الرياضية للحكم وتسمى مرحلة الإعداد العام و تكون قبل بداية الدوري وصولا إلى إجراء الإختبار البدني المعتمد من الفيفا.


المحطة الثانية تكون أثناء الدوري و هي عبارة عن التحركات داخل الملعب و التحرك بالراية و التنسيق بين حكم الساحة و مساعديه، تختلف هذه المرحلة كليا فيصبح من الصعب رفع المستوى أكثر مما هو عليه بل تصبح عملية التطوير بطيئة و محددة.بعد انتهاء الدوري، يتم البدء بالمحطة الثالثة و التي تكون كمقدمة للمحطة الأولى سابقا ومتصلة بها فيرتاح الحكم ليس رياضيا بل بدنيا من الجهد العالي و نتجه نحو ممارسة رياضات أخرى بجهد خفيف بعيدا عن كرة القدم. هذه الفترة تسمى مرحلة الإستشفاء العام بعد الجهد و الإصابات. المراحل الثلاثة هذه تعتبر كحلقة مترابطة بطريقة تعيد المستوى البدني و تجهز الجسد لنطلاقة جديدة.

ولدى سؤاله على أي اساس يتم تحضير برنامج التمرين الإعدادي، أجاب القواص: البرنامج يأتينا شهريا من مدرب اللياقة البدنية العالمي " الدكتور وارنر " و هو المسؤول عن الإعداد البدني لجميع حكام العالم. بعدما ينتهي من إعداد البرنامج يرسلهم إلى جميع مدربي اللياقة المعتمدين من قبل إتحادات الكرة المحلية. في بعض الفترات نقوم بتعديلات بسيطة على التمرين من ناحية المسافة و الوقت لكن هذا التعديل يتم وفق قواعد محددة تفيد الحكام من ناحية الجهد المبذول الذي يبقى هو نفسه في كلتا الحالتين. و دائما ما يتم التواصل مع الدكتور وارنر و الإتحاد الأسيوي لإيضاح بعض الأمور و الإستفسار عنها.


و يرى القواص أن مستوى الحكام البدني حاليا هو في أعلى مستوياته منذ فترة طويلة و هم مستعدون في أي وقت لإجراء أي اختبار بدني براحة تامة خصوصا أن بداية فترة الإعداد شهدت لأول مرة في تاريخ حكام لبنان تألق حوالي عشر حكام منهم دوليين و حكام جدد و تسجيلهم لأوقات ممتازة ( 15 لفة و المطلوب كان 10 ) ضاهت فيها أرقام الحكام المميزين على مستوى العالم.


و الدليل على المستوى البدني العالي أن جميع الأخطاء التي وقع فيها الحكام خلال القسم الأول من الدوري كانت فنية بحتة و ليست بدنية و هذا يحصل و الدليل كأس العالم الأخيرة حيث كان الحكام في حالة بدنية ممتازة لكنهم وقعو في أخطاء فنية كثيرة.


و ختم القواص حديثه أن الحكم اللبناني لا ينقصه أي شيئ كي يكون بين النخبة الآسيوية على صعيد اللياقة البدنية و هو ما ترجمه الحكم الدولي علي رضا في ماليزيا حيث تألق في الإختبار البدني الذي أقيم هناك. و دوليا أيضا لدينا الإمكانيات كي نتواجد في المحافل الدولية على الصعيد البدني و الذي يمنعنا من هذا هو المستوى الفني لبعض الحكام و ليس مستوى اللياقة.


لم تعد معايير انتقاء الحكام كما كانت في السابق فاليوم لم تعد كفاءة الحكم فنيا و بدنيا وحدها هي المعيار بل أصبحت عملية انتقاء الحكم مرتبطة بعدة معايير أخرى أهمها على الإطلاق تحدث الجكم للغة الإنكليزية و قد أصبح هذا العنصر مهما جدا لدى الإتحادين الاسيوي و البدني بل اصبح العامل رقم واحد فلا يشفع للحكم اليوم أن يكون جاهزا فنيا و بدنيا كي يتم اختياره لقيادة المباراة الخارجية إن كانت لغته الإنكليزية ضعيفة. الإتحاد اللبناني لكرة القدم مثلا بلجنة الحكام لم يفتها هذا الأمر فنصحت جميع حكامها خصوصا الدوليين منهم بإجراء دورات لغة إنكليزية على مستوى عال كي يحصلوا على فرصتهم كاملة عندما يوفرها لهم الإتحادين الأسيوي و الدولي.


تتألف لجنة الحكام في الإتحاد اللبناني من جورج شاهين رئيسا و الأعضاء: عبد القادر سعد – ​طلعت نجم​ – محمد المولى – روبين ترازيان و بشير أواسي و تأخذ قراراتها بالإجماع. ومن الموسم الماضي لا تسمح اللجنة لأي حكم بقيادة أي مباراة في أي من المسابقات الإتحادية إن لم يكن مجتازا للإختبار البدني الذي يقام كل 4 أشهر.


طلعت نجم: اخطاء الحكام ليست متعمدة والاندية مقتنعة بذلك


هو إبن حومين التحتا و مختارها، صاحب ال 46 عاما، بدأ التحكيم عام 1995 و نال الشارة الدولية عام 2000 واعتزل التحكيم عام 2011 بعد مسيرة دولية حافلة. مثله الأعلى في التحكيم جمال الشريف. إنه الحكم اللبناني الدولي السابق طلعت نجم عضو لجنة الحكام في الإتحاد اللبناني لكرة القدم.


التقيناه في مقر الإتحاد اللبناني لكرة القدم في فردان، و سألناه عن مرحلة بداية الدوري هذا الموسم و الأخطاء التحكيمية التي رافقتها فأجاب: كما المدربين و اللاعبين لا يكونون مئة بالمئة جاهزين كذلك الحكم و الحالات التحكيمية التي حصلت في مراحل الدوري الأولى كانت صعبة جدا حتى أن اللجنة لدى مراجعتها لشريط المباريات اختلفت فيما بينها في الحكم على بعض الحالات بعد مشاهدتها لعشرات المرات فكيف بالحكم الذي يأخذ قراره بجزء من الثانية و هذا ليس تبريرا للحكم و الأخطاء التي حصلت كانت مع حكام يتميزون بلياقة عالية لكنها كانت ناجمة عن سوء تمركز و أخذ زاوية رؤية غير مناسبة. لكن مع انقضاء المراحل الأولى شهد التحكيم تحسنا كبيرا حيث قلت الأخطاء مع منح اللجنة فرصا لوجوه شابة لا تملك عمرا تحكيميا كبيرا كماهر العلي و علي سلوم و هؤلاء نجحوا في مبارياتهم ما يشجع اللجنة للمضي قدما في هذه الخطوة.


نجم أشار إلى أن المشكلة الرئيسية التي تواجه اللجنة هو عدم توفر عدد كبير من حكام الدرجة الاولى ما يجعل الحكام يتكررون في كل أسبوع و البديل غير موجود حاليا رغم وجود خامات شبابية واعدة لكنها تحتاج
إلى بعض الوقت. و رغم تعدد الأخطاء في بعض مباريات مرحلة الذهاب، أكد نجم أن جميع الأندية مقتنعة بأنها أخطاء استثنائية و لا تعمد تجاه أي ناد. و لا يمكن القول بأن هناك ناد انطلم من وراء هذه الأخطاء، فالأخطاء دارت على الأندية كلها و لم يساهم في تغيير جدول الترتيب بعد مرحلة الذهاب.

نجم شدد على ان الحكام لديهم دعم غير محدود من الإتحاد اللبناني بشخص رئيسه و الأمين العام و أعضاء اللجنة التنفيذية خصوصا ممن يمثلون أندية في الدرجة الأولى لاتخاذ جميع القرارات التي يرونها في المناسبة و عدم الدخول في أي حسابات فالقرار الأول و الأخير لهم و الإتحاد إلى جانبهم دائما.


وردا على سؤال حول من الافضل الجيل الحالي للحكام أم الجيل السابق أجاب نجم: الجيلين يملكون خامات ممتازة لكن الجيل السابق كان مستوى الدوري أعلى في أيامه ما ساهم برفع مستواه و هذا ما يميزه عن الجيل الحالي لكن مع تطور مستوى الدوري حاليا و ارتفاع مستواه سيكتسب الحكام خبرة أكثر فالدوري القوي بلا شك يولد حكاما أقوى.


نجم أشاد بالحكم الدولي السابق رضوان غندور الذي يعتبره أنه الأول حاليا في لبنان و من أفضل الحكام الذين مروا في تاريخ كرة القدم اللبنانية فهو صاحب نضج كبير و خبرة واسعة و كسب احترام جميع اللاعبين و الأندية و على كل حكم حاليا لبناني أن يطمح للوصول إلى مستوى رضوان غندور. و أشار نجم إلى أن غندور انظلم على الصعيد الأسيوي و هو لم يأخذ حقه أسيويا كما يجب خصوصا في ظل اتجاه الفيفا لتمديد الحد الاقصى لعمر الحكام الدوليين من 45 إلى 50 حيث كان باستطاعته تقديم عشر سنوات أسيوية لكن غندور فضل الإبتعاد عن الساحة الدولية.


لا يبدي نجم تفاؤله بوصول حكم لبناني إلى كأس العالم روسيا 2018 ليكون ثاني حكم بعد الدولي السابق المتألق حيدر قليط الذي مثل لبنان في كأس العالم 2002 التي أقيمت في كوريا الجنوبية و اليابان ليس لعدم كفائة الحكم اللبناني بل لتعقيد النظام المعتمد من قبل الإتحاد الأسيوي. نجم ليس راضيا على الإطلاق عن نظام الإتحاد الاسيوي في التعامل مع الحكام الدوليين.


و دعا نجم الإتحاد الأسيوي إلى إعادة النظر بالمعايير الموضوعة للائحة حكام النخبة الأسيويين لأن المعايير الموضوعة تضر كثيرا بالإتحادات الوطنية و بمستوى التحكيم فيها. فعلى كل الحكام الدوليين أن يأخذوا فرصا متساوية خارجيا و أن يقودوا مباريات على الصعيد الأسيوي و ليس فقط أن يتم مراقبتهم محليا في مباراة واحدة أو مبارتين و الحكم عليهم من خلال هذه المراقبة فقط ، فالحكم الدولي إن لم يقد المباريات الخارجية يقل حماسه و يتأثر ما يؤدي إلى انخفاض مستواه في المسابقات المحلية.


واقع التحكيم في لبنان ليس مأساويا كما الرياضة بل هو واقع يحمل الامل رغم الفترة الرمادية التي يمر بها، والاعتماد على حكام جدد مثقفين أصحاب شهادات جامعية لرفع اسم لبنان في المحافل الدولية و إتحاد كرة القدم لا يألو جهدا لتطوير مستوى الحكام و منحهم الفرص المتتالية. فما يبقى على حكامنا إلا استغلالها والإثبات للجميع أنهم أكفاء و قادرون على أن يكونوا على مستوى المنافسات المحلية المحتدمة هذا الموسم وأن يبرهنوا للجميع أن الحكام الأجانب ليسوا أفضل منهم على الإطلاق و أننا لسنا أبدا في حاجة إلى حكام من الخارج لإدارة المباريات الحساسة .


مهمة تتوفر جميع عناصرها امام حكامنا من تدريب صحيح و تكافؤ في الفرص فلا يبقى إلا أن يكونوا هم على مستوى المسؤولية و جميع المؤشرات تدل على أن حكامنا سيكونون على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقهم.

سامي جو النقاش